الخمر Alcohol في اللغة هو ما خامر العقل، أي غطاه وغيبه، ومتى اجتمعت الأحرف الثلاثة بتتابعها (خ م ر) كان المعنى متضمناً للتغطية والغياب. ومن هنا كان تحريم الخمر في الإسلام، حيث يذهب الخمرُ العقلَ ويخرجُ الإنسانَ عن طور إنسانيته التي تمتاز بقدرة العقل على ضبط السلوك البشري وتوجيهه والسيطرة عليه. وقدكان شرب الخمر شائعاً ومنتشراً في الجاهلية إلى حدٍ بعيدٍ استدعى التدرج في تحريمه، وهو ما لم يحصل في تحريم غيره من المطعومات كالخنزير مثلاً، نظراً لاستفحال شربه وكثرة تناوله لدى العرب وغيرهم قبل الإسلام. وفي هذا قالت أمنا عائشة -رضي الله عنها- فيما أخرجه البخاري في صحيحه:"إنما نزل أول ما نزل سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس للإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء "لا تشربوا الخمر" لقالوا: لا ندع شرب الخمر، ولو نزل أول شيء "لا تزنوا" لقالوا: لا ندع الزنا.. ".. وقد أورد العلماء في آيات التشريع القرآني أن تحريم الخمر مر بثلاث مراحل متوالية، كان أولها تحريم الخمر قبل الخروج إلى الصلاة، كما في قوله جل جلاله:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾ (النساء: ٤٣)، تلاها إبراز المضار التي ترشح من تناول الخمر، والتي تفوق بكثير الفوائد المجتباة من تناوله، مما يدفع العقل إلى توظيف مفاعيله في تقدير المصلحة والمفسدة ويجعله في مرحلة توزين الجانبين في ميزان العقل والموضوعية،فقال جل جلاله: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ (البقرة: ٢١٩)، وأخيراً كانت الآية الحاسمة التي حسمت موضوع الخمر وقطعت دابر تلك العادة الذميمة والسلوك المريض، فقال العزيز الحكيم جل جلاله في محكم تنزيله:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ (المائدة: ٩١) . وقد أورد بعض العلماء أن التدريج كان على مراحل أربع، تضاف فيها إلى المراحل الثلاث المذكورة آنفاً الآيةُ المكية من كتابه الكريم، والتي تضمنت التلميح إلى أن الخمر، والذي عبر عنه القرآن الكريم بلفظة السَّكَر على أرجح أقوال المفسرين، ليس برزق حسن؛ تهيئة للنفوس وترسيخاً في العقل الباطن أن الخمر لا يندرج ضمن الطيب من الرزق: ﴿ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ (النحل: ٦٧)، إذ تفيد واو العطف في اللغة المخالفة والمغايرة، بالإضافة إلى العطف. وقد غلظ الشارع الحكيم في التنفير من معاقرة الخمر، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة من تناوله، فكانت عقوبة شارب الخمر عقوبة شرعية مقدرة لا تهاون فيها، عبر عنها المشرع الإسلامي بكلمة "الحد" للدلالة على اختصاص جرم شرب الخمر بتجاوز حدود الله جل جلاله والتعدي على شرعه وقوانينه. ولعل مما جاء في التنفير من شرب الخمر وإبراز بشاعته ما أورده الألباني وحسنه في السلسلة الصحيحة عن عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخمر أم الخبائث، ومن شربها لم يقبل الله منه صلاة أربعين يوماً، فإن مات وهي في بطنه مات ميتة جاهلية".فكلمة "الخمر أم الخبائث" تدل على أنه جماع الشرور ومجمع الضرر ومستودع المفاسد التي لا تقتصر على الفرد فحسب بل تتعداه إلى المجتمع بأسره. والمتأمل في كتاب الله جل جلاله يجد ملمحاً جميلاً يتمثل في تقديم ذكر الضرر على المجتمع وعلى الآخر نتيجة لشرب الخمر وعدم اقتصاره على إلحاق الضرر بالشارب فحسب، ويظهر ذلك جلياً في قوله جل جلاله :﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ (المائدة: ٩١). وللدلالة على عظم الخطر والضرر المترتب على معاقرة الخمر أنه جل جلاله قدَّمَ ذكر بث العداوة والبغضاء بين الشارب ومن حوله وعلى المجتمع "بَيْنَكُمُ"، قدمه على الصدِّ عن ذكر الله جل جلاله وعن الصلاة؛ ذلك أن الصلاة والذكر ترتبط مباشرة بالفرد وشخصه وكينونته، بينما ينعكس شرب الخمر على الآخر لا على الذات فحسب. ولما كانت مباديء الشريعة الغراء قائمة على حفظ الحقوق والنفوس وصيانة المجتمع بأسره، لا الفرد بعينه، ولما كانت العلاقة في الإسلام بين الأفراد تقوم على المشاححة (أي المقاضاة وإعطاء كل ذي حق حقه)،كان ذلك التقديم موائماً لمقاصد الشرع ومحققاً لغاياته ومراميه من حفظ للأمن الجماعي وصون للمجتمع بكليته، بخلاف الرأسمالية المعاصرة والمناهج الأرضية التي تتمحور حول الفرد وذاته وتغفل المجتمع بكليته. وفي العصر الحديث جاءت حقائق العلم مؤيدة لحكم التشريع الإسلامي في النهي عن شرب الخمر ومعاقرته وفي تبيان أثره على المجتمع ومناقضته لمبدأ حرية الإنسان وكرامته المضبوطة بكرامة الآخر وحريته. ولن أتطرق في مقالي هذا إلى الحديث حول الأضرار الصحية والفسيولوجية التي يسببها شرب الخمر، والذي يعزى إليه بشكل رئيس التسبب في العديد من حالات السرطان وأمراض النقص الغذائي، لأنه ليس المقصود في هذا السياق ولا يستع المقام لذكره؛ إنما المقصود استجلاب معطيات العلم الحديث حول أثر الخمر على المجتمع وما يلحقه من أضرار مباشرة وغير مباشرة، وحول حجم تأثير الخمر وضرره على الفرد وعلى الآخر المحيط به. ففي دراسة حديثة حديثة أجراها البروفيسور ديفيد نات، خبير علم السموم والعقاقير النفسية والعصبية في كلية امبريال في لندن، ونشرت في مجلةThe Lancet ، وهي واحدة من أهم المجلات العلمية العاليمة وأكثرها انتشاراً ومصداقية، في العدد الأخير من العام 2010 ونشر خبرها على موقع الجزيرة نت. كشفت نتائج الدراسة عن الأضرار الخطيرة التي يبتسبب بها الخمر على المجتمع، وأكدت نتائج الدراسة الحقيقة القرآنية من أن ضرر الخمر على المجتمع أكبر من تأثيره على الفرد فحسب. فقد قام البروفيسور ورفاقه بدراسة الأضرار الكلية Overall Harms الناجمة عن تناول الخمر وأنواع المفترات والمخدرات، وقاموا بتصنيف تلك الأضرار من حيث التأثير إلى نوعين: التأثير على المتناول للخمر أو العقار المخدر To Users، والتأثير على الآخر المحيط بمتناول الخمر أو العقار To Others. كما قاموا بتصنيف الأضرار الناجمة عن تناول الخمر والمخدرات تبعاً لطبيعة التأثير إلى أربعة أنواع هي: التأثيرات النفسيةPsychological (مثل غياب القدرة على العمل والاعتماد على الآخر، والتأثير سلباً على وظائف الدماغ والقدرات العقلية بشكل مباشر وغير مباشر)، والتأثيرات الفسيولوجية على وظائف الجسم Physical (مثل التسبب المباشر بالوفاة والتسبب غير المباشر بالوفاة من خلال إلحاق ضرر قد يفضي أو يتضاعف إلى الوفاة، وكذلك التسبب بعطب أو إعاقة جسمية بشكل مباشر أو غير مباشر)، والتأثيرات الاجتماعية على الآخر المحيط بمتناول الخمر أو العقار المخدر Social (مثل خسارة المنجزات الشخصية كالوظيفة والفشل الدراسي والتجارة، أو التأثير سلباً على الروابط العائلية مثل التسبب بالطلاق وضياع الأسرة، والتأثير على سلم المجتمع وأمنه والتسبب في إلحق الضرر بمكوناته ومنجزاته وبيئته، والكلفة الاقتصادية الكلية المترتبة على الدولة والمجتمع)، وأخيراً، التأثيرات النفسية والجسدية Physical and Psychological (مثل انتشار الجريمة بأشكالها) (الشكل رقم 1).
الله جل عزوجل حرم الخمر (الخمر Alcohol) من أسرار التشريع القرآني في تحريم الخمر